
نظرة بيئية
أجيال الغد تدفع ثمن حرب اليوم
كتب : شرف الدين يوسف آدم
اندلاع الحرب في السودان منذ أبريل 2023 لم يقتصر أثره على الجانب الإنساني أو الأمني، بل إمتد ليشكّل أزمة بيئية صامتة ومعقدة قد تدوم آثارها لعقود. فالخرطوم، باعتبارها مركزًا حضريًا رئيسيًا ومقرًا لأغلب الجامعات والمستشفيات ومراكز البحث والمصانع والشركات، تحتوي على كميات هائلة من المواد الكيميائية، من محاليل وأدوية ومطهرات، إلى مذيبات صناعية ودهانات ومواد بترولية. هذه المواد الحساسة كانت في الظروف الطبيعية من المتوقع ان تُدار عبر أنظمة السلامة المهنية، لكن حتى قبل اندلاع الحرب لم تكن هناك مؤسسات فعالة للرقابة البيئية، ومع انهيار الدولة كليًا أصبحت هذه المواد عرضة للتسرب والنهب والدمار.
منذ الأيام الأولى للقتال، ومع القصف المتبادل في أحياء الخرطوم الصناعية والسكنية، اندلعت حرائق في مخازن كيميائية تابعة للمستشفيات والمصانع. هذه الحرائق أطلقت كميات هائلة من الغازات السامة والجسيمات الدقيقة إلى الهواء، ما رفع مستويات التلوث الجوي بشكل خطير وأثر مباشرة على صحة السكان، خاصة الأطفال وكبار السن ومرضى الجهاز التنفسي. ولم يتوقف الأمر عند الهواء، إذ إن كثيرًا من المحاليل والمواد المخزنة في المعامل الجامعية والمراكز الطبية تسربت إلى شبكات الصرف والمجاري المائية، ووصل بعضها إلى النيل، ما جعل مصادر الشرب والري عرضة للتلوث.
تفاقم الخطر أكثر مع إستخدام الأسلحة الكيميائية بصورة مباشرة في الخرطوم، وهو ما ضاعف حجم التلوث والآثار الصحية الخطيرة على المدنيين. إضافة إلى ذلك، برز خطر مخازن تحتوي على مواد شديدة السمية في الخرطوم مثل حمض ثلاثي كلورو إيزوسيانيوريك (Trichloroisocyanuric Acid)، المستخدم عادة في التعقيم، لكنه في حال التسرب يشكل تهديدًا خطيرًا على المياه والتربة. إلى جانب ذلك، هناك مواد أخرى محتملة الخطورة مثل الفينولات، الفورمالدهيد، النيتريتات، والمبيدات الصناعية، وكلها قد تكون مصدر تلوث واسع إذا لم تُعالج بشكل آمن.
الآثار البيئية لهذه الأزمة متعددة. أولاً، التربة الزراعية المحيطة بالخرطوم امتصت بعض المواد الكاوية والحمضية، وهو ما يؤدي إلى تدهور خصوبتها على المدى الطويل، مهددًا الأمن الغذائي لمجتمعات تعتمد على زراعة الخضروات والفواكه في أطراف العاصمة. ثانيًا، المياه الملوثة لا تشكل خطرًا على الإنسان فقط، بل أيضًا على النظام البيئي بأكمله، حيث يمكن أن يؤدي تلوث النيل والمجاري إلى نفوق الأسماك والكائنات المائية، ما يخلّ بالتوازن البيئي ويؤثر على سبل كسب العيش للصيادين المحليين. ثالثًا، التنوع البيولوجي الحضري والريفي مهدد، إذ إن النباتات والحيوانات التي تعرضت للتلوث الكيميائي قد تحمل آثارًا تراكمية تؤثر في السلسلة الغذائية لسنوات قادمة.
وتتعدى الأزمة الخرطوم إلى مناطق أخرى. ففي ولاية الجزيرة، أدى تدمير بنك الجينات الزراعي في مدينة مدني إلى ضياع موارد وراثية قيّمة تمثل أساسًا للتنوع الزراعي، ما يشكل خطرًا على الأمن الغذائي الوطني. كما ساهم النزوح الكبير، إلى جانب تدمير المؤسسات الصحية والزراعية، في ظهور أمراض جديدة وانتشار الحشرات والآفات والفئران في بيئات غير مألوفة، مما زاد من تفشي الأوبئة.
من جانب آخر، أدى غياب غاز الطهي في دارفور ومناطق أخرى إلى لجوء السكان لقطع الأشجار بكثافة واستخدامها كحطب للوقود أو كمأوى مؤقت للنازحين، ما تسبب في إزالة آلاف الهكتارات من الغطاء النباتي. ومع ذلك، كان للحرب أثر معاكس في بعض المناطق الأخرى، حيث ساهم نزوح السكان وتوقف النشاط الزراعي أو الصناعي في تعافي بيئي نسبي، انعكس في نمو بعض الأشجار والنباتات مجددًا نتيجة لانخفاض الضغط البشري المباشر.
الأثر الصحي لهذه الأزمة يلوح في الأفق بوضوح. فمع تلوث الهواء والماء والتربة، يرتفع خطر انتشار الأمراض التنفسية والجلدية، كما أن التعرض الطويل لبعض المواد السامة يمكن أن يؤدي إلى أمراض مزمنة أو سرطانات. هذه الأخطار لن تتوقف بانتهاء الحرب، بل قد تظل كامنة لسنوات، لتظهر في شكل أوبئة أو معدلات مرتفعة من الأمراض المزمنة. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن الحرب الحالية لا تقتل فقط بالرصاص، بل تزرع بذور معاناة صحية وبيئية طويلة الأمد.وخاصة مع موسم الامطار تزداد المخاطر البيئية.
الان قد ظهرت بعد المناطق الملوثة و على المدى البعيد، هناك احتمالية لظهور “مناطق ملوثة” داخل الخرطوم وضواحيها، أشبه بما يُعرف في دراسات الكوارث البيئية بـ “النقاط السوداء”، وهي مواقع يصبح التعامل معها مكلفًا ومعقدًا للغاية. إعادة تأهيل مثل هذه المناطق تتطلب خبرات عالية في إدارة النفايات الكيميائية ومعالجة التربة والمياه، وهو أمر يتجاوز قدرات المؤسسات المحلية في ظل الظروف الحالية. كما أن التكلفة المالية لمثل هذه العمليات ضخمة، وقد لا تكون ضمن أولويات إعادة الإعمار ما لم يتم إدراك خطورة المسألة مبكرًا.
رغم قتامة الصورة، إلا أن هناك فرصًا لتدارك الوضع إن توفرت الإرادة والتخطيط السليم. الخطوة الأولى تكمن في إجراء مسح بيئي شامل لتحديد مواقع التلوث وحجم الأضرار. هذه المهمة يمكن أن تتم بالشراكة بين الجامعات السودانية التي ما زالت تعمل، والمنظمات الدولية مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP). بعد ذلك، يجب وضع خطة طوارئ بيئية تركز على إدارة النفايات الكيميائية المتبقية وتأمين المخازن والمواقع الحساسة، مع توفير الدعم الفني واللوجستي للمنظمات المحلية العاملة في الميدان.
إلى جانب ذلك، لا بد من رفع الوعي المجتمعي حول المخاطر البيئية. فالمجتمعات المحلية، خاصة في الأحياء المتضررة، يمكن أن تكون خط الدفاع الأول ضد المزيد من التلوث إذا تلقت التدريب والمعلومات اللازمة للتعامل مع المواد المشبوهة أو الإبلاغ عن مواقع الخطر. كما أن دمج البُعد البيئي في برامج الإغاثة الإنسانية أمر ضروري، بحيث لا يقتصر الدعم على الغذاء والصحة فقط، بل يشمل أيضًا حماية البيئة التي يعيش فيها الناس.
في النهاية، إعادة الإعمار في السودان لن تكتمل إذا تجاهلنا البعد البيئي. فالسلام الحقيقي لا يعني فقط وقف إطلاق النار أو إعادة بناء المنازل، بل يعني أيضًا استعادة بيئة سليمة قادرة على احتضان الحياة البشرية وضمان استدامتها. الخرطوم اليوم تواجه اختبارًا قاسيًا وهي غير صالحة حالياً، وإذا لم يتم التعامل مع الأزمة البيئية بجدية، فإن آثار الحرب ستظل تطارد الأجيال القادمة في الهواء الذي يتنفسونه والماء الذي يشربونه والغذاء الذي يأكلونه. ولهذا فإن دمج القضايا البيئية في أي مسار للسلام والتنمية ليس خيارًا إضافيًا، بل ضرورة وجودية لمستقبل السودان.






