كتب : عثمان ميرغني
مئات الآلاف من المرضى السودانيين سنوياً يبحثون عن العلاج في عدة دول على رأسها مصر والهند وغيرهما.. وخلف كل مريض أسرة كاملة غالباً يسافر بعض أعضائها مع المريض.. و تمتد رحلات العلاج بين عدة أيام إلى عدة أشهر تتطلب مليارات الدولارات التي غالباً يمولها المريض من ماله الخاص أو ما تستطيعه دوائر العلاقات الاجتماعية إذا توفر للأسرة مغتربون..
و رحلات العلاج علاوة على ما تستنزفه من موارد الأسرة السودانية فهي تفرض عليها “غُربة وشوق” وربما في بلاد بعيدة في الشرق الأقصى للذين يسافرون إلى تايلاند مثلاً.. أسوأ ما يعانيه المريض أن يجد نفسه محروماً من دفء الوطن والأسرة في لحظات الألم والوجع.. فيصبح السؤال.. متى لا يحتاج المريض السوداني للغربة طلباً للعلاج؟
والسؤال هنا عن “متى” لا علاقة له بـ”متى” أخرى مرتبطة بالعبور فوق الوضع السياسي النكد الذي أوقف حال البلاد والعباد وجعل أعلى طموحات شعبنا حالياً أن تسلم البلاد من الانهيار وتخرج من الأزمة السياسية بأقل قدر من الخسائر الحتمية.
صحيح أن الأزمة السياسية الراهنة تجعل التفكير في حل مشكلة الهجرة العلاجية ترفاً.. لكني هنا أطرح السؤال عن “متى” ليس للحصول على وعد رسمي لحل مشكلة العلاج بالخارج بل لأني أبحث عن منهج تفكير جديد يتجاوز الراهن السياسي ويفكر في أفق الدولة الممتد والمرتبط بكيان الدولة لا الحكومة والسياسة والساسة.
وبهذا المنطق فإن السؤال “متى”؟ يفترض أنه موجه لمؤسسية الدولة، هل هناك جهة ما يهمها النظر في الأفق لتحدد مواقيت Milestone لما يجب أن يعبره الوطن السودان من مراحل حضارية؟
صحيح أن وزارة الصحة هي الجهة التي يجب عليها أن تنظر في حال البلد الصحي، و أن تكون قادرة على الإجابة على هذا السؤال، لكن الأصح أن الواقع الراهن في السودان لا يسمح لوزارة الصحة حتى مجرد الإجابة على سؤال آخر نوعي ومعياري هو؛ متى لا يموت أطفال المناصير بلدغات العقارب؟ فإن كان مثل هذا السؤال بلا إجابة فليس من الحكمة أن يمتد البصر إلى ما قد يعتبره البعض ضرباً من الخيال.
كتبت كثيراً عن حتمية الفصل بين مؤسسات التخطيط والتنفيذ في بلادنا، وأن نعيد هيكلة الدولة ليصبح التخطيط سلطة موازية للسلطات الثلاث المعلومة، السلطة التنفيذية ، السلطة القضائية، السلطة التشريعية، وتعمل الدولة بمبدأ حاكمية التخطيط و محكومية التنفيذ، فالتخطيط يعتد بالآمال الواعدة لا الآلام الراهنة.
و في قضية العلاج بالخارج، لن تستطيع المؤسسات التنفيذية في وزارة الصحة أو غيرها أن تجد الوقت ولا الخيال ولا الرؤية التي تسمح لها بوضع خطة استراتيجية بصيرة تجيب بصور مباشرة على السؤال، متى لا يسافر السودانيون الى العلاج بالخارج؟ فلهذه المؤسسات ما يشغلها حتى النخاع بالأزمات الراهنة..
لكن في المقابل، لو كانت هناك مؤسسة مستقلة معنية بالتخطيط الاستراتيجي عموماً، لكن في وسعها أن ترسم خارطة طريق تحدد متى يتخلص المرضى السودانيون من عبء الهجرة طلباً للعلاج؟
و مهما كان هذا التاريخ المنشود بعيداً فإن العبرة أن يكون هناك طريق معلوم المسافات والمحطات..
الأزمة السياسية الراهنة حتى ولو انقشعت ستظل في بناء الدولة، وهو أمر يتجاوز قدرات السياسة والساسة.