كتب :عثمان ميرغني
الأدب السياسي السوداني المنشور يتجنب الإشارة المباشرة إلى أن مصدر الخلل في البلاد هو المسلك السياسي الذي يقوم على فصل الفعل عن القول.
مَن يتابع هدير وسائط التواصل الاجتماعي في السودان، ويرصد التراشق المثار في سوح المعارك السياسية، يهوله فرط الانشغال بالمعارك الكلامية، في وقت تتسارع فيه خُطى البلاد نحو الحضيض، ويكابد المواطن حياة قاسية، تعطلت الأعمال، وتصاعدت الأسعار، وتضعضعت الخدمات الرئيسة، مثل: التعليم، والرعاية الصحية، وحتى الأمن، ومع كل ساعة تمضي يزداد الوضع سوءًا.
الجدال يتجنب الاصطدام المباشر مع لُب الأسباب الجذرية للأزمة السودانية، فكأنما هناك اتفاق سري بالتستر على الفشل السياسي وتعمية البحث عن أصل المشكلة.
الأزمة السياسية السودانية تخضع لعاملين أساسين:
العامل الأول قُوَى الفعل السياسي Actors، وهم الفاعلون متخذو القرار السياسي من الشخصيات الطبيعية “الساسة”، والمؤسسات الاعتبارية “الأحزاب”.
أما العامل الثاني؛ فهو القواعد الشعبية التي تدعم متخذي القرار بشقيهم الشخصي أو الحزبي.
الممارسة السياسية في السودان تقوم على مبدأ (أعذب الشِعِر أكذبه)، فليس مطلوبًا من الكلمات والأدبيات المنشورة أكثر من الأثر البلاغي.
على مستوى العامل الأول، فإن الدراسة العميقة للمسلك السياسي طوال عهود الدولة السودانية التي نشأت بعد أول انتخابات 1953 إلى اليوم لا يجد الباحث مشقة لإثبات الخلل الكبير في عقلية الحُكم والسياسة، مما سمح للأخطاء التاريخية الجسيمة أن تتكرر طوال أكثر من 67 سنة منذ الاستقلال، وتتراكم بممارسات الساسة والأحزاب، مما كَرّس الفشل السياسي في الدولة السودانية.
لكن الأدب السياسي السوداني المنشور يتجنب الإشارة المباشرة إلى أن مصدر هذا الخلل هو المسلك السياسي الذي يقوم على فصل الفعل عن القول، لدرجة تجعل التحليل السياسي المبني على ما يقوله الساسة من تصريحات أشبه بمحاولة السير فوق الدخان، فالكلمات لا تعني شيئًا أكثر من رنينها، ولا يجدي التعويل على ما يقوله السياسي، فغالبًا إما هو مجرد قول ملقي على عواهنه أو كلمات يسهل إنكار معانيها.
ويمتد فصل الفعل من القول إلى المواثيق التي يدمن الساسة كتابتها، وتظل مجرد مراسيم لا تتجاوز لحظات الاحتفال بتوقيعها وتُنسى تمامًا، ويتجاوزها الواقع، مثل الوثيقة الدستورية الموقعة، في 17 أغسطس 2019، في أجواء احتفالية شهدها حضور إقليمي ودولي فخيم، ولكن بنودها الأساسية ظلت معطلة حتى فجر الانقلاب عليها في 25 أكتوبر 2021.
في يوم كتبتُ معلقًا على حديث أحد الساسة رأيته
أمامي يتحدث في شاشة إحدى الفضائيات، فعاتبني لماذا لم اتصل به قبل الكتابة، فقلت له أن الأمر لا يحتاج فقد شاهدته كفاحًا أمامي فكان رده مندهشًا (وهل تصدق ما نقوله في الإعلام؟).
الممارسة السياسية في السودان تقوم على مبدأ (أعذب الشِعِر أكذبه)، فليس مطلوبًا من الكلمات والأدبيات المنشورة أكثر من الأثر البلاغي، فيصبح عسيرًا التعويل على تفسير ما يقال في الوسط السياسي طالما هو من صنع وادي عبقر و لسان حاله قول الشاعر صديق مدثر: (لا تقل إني بعيد في الثرى .. فخيال الشعر يرتاد الثريا)..
الممارسة والمسلك اللذان يعاني منهما الفاعلون الساسة والمؤسسات الحزبية، مردهما الأول ضعف القوام المؤسسي لدى الساسة والأحزاب.
في كل يوم تشرق فيه الشمس تنهمر على الأثير السياسي السوداني عشرات البيانات من الأحزاب والتحالفات والأفراد من مختلف الاتجاهات السياسية، وحين يغمض الكون أجفانه آخر اليوم تتجمع مئات السطور المنشورة والمبثوثة، ثم تصبح كل هذه الأدبيات الموثقة محض دخان في الهواء لا يعني شيئًا، إلا القليل النادر.
هذا المسلك يجعل السياسة في السودان ممارسة “هوائية”، بلا أهداف ولا سيقان ولا قواعد تنطلق منها مما يحجب تراكم الخبرة وتقوية بنيان الدولة.
الممارسة والمسلك اللذان يعاني منهما الفاعلون الساسة والمؤسسات الحزبية، مردهما الأول ضعف القوام المؤسسي لدى الساسة والأحزاب.
القوام المؤسسي أقصد به السلوك والتفكير المبني على النهج المؤسسي الذي يفصل بين الخاص والعام وبين الشخصي والمؤسسي.
في مجمل الممارسة السياسية السودانية، قدرات السياسي مكرّسة للدفاع بشراسة عن مصالحه الشخصية أولًا ثم الحزبية ثانيًا، بينما تظل المصالح القومية معلقة في الشعارات التي ترفع على الرايات وينفعل بها ويتفاعل معها الشعب.
قدرات الساسة أضعف من أن تسمح لهم بتبني مفاهيم تعتمد الأهداف القومية العليا دليلًا وهاديًا في العمل والقول، ودائمًا السياسي بحاجة للتغطية على ضعف قدراته باستخدام العامل الثاني الذي أشرت إليه في مقدمة هذا المقال؛ وهو القواعد الشعبية المُغَيّبة بدخان الشعارات فتدعم متّخذي القرار من ساسة وأحزاب بلا حساب أو محاسبة.
المسكوت عنه في الفضاء السياسي السوداني أن الساسة – بصفة غالبة – لا يَحظون بقدرات شخصية تؤهلهم للارتقاء إلى درجة “رجال دولة” قادرين على قيادة الدولة وليس مجرد تظاهرة أو حملات الكراهية المتبادلة.
من المسكوت عنه سياسيًا أن الشعب السوداني سهل الانقياد لصناعة “الوهم”، وما أيسر أن تتوهّم قصصًا مختلقة تُبنى عليها حيثيات سرعان ما تجد ما يكفي من الرنين والسند الشعبي الجانح لاستقطاب يترقي إلى مقام الولاء والتقديس بلا أي جهد من التحديق، وتحري الحقائق والموضوعية.
عادة في منتديات الحوار، وما أكثرها مع تكاثر المجموعات في وسائط التواصل الاجتماعي، ينقسم الجمهور السوداني بين مع وضد بحيثيات لا تستبطن نظرة موضوعية للحقيقة، أشبه بتشجيع فرق كرة القدم بلون القميص الذي يرتديه اللاعب لا بأدائه، مما يجعل الحوار – مهما طال – غير قادر على إقناع طرف بالتخلي عن رأيه فهو جدال بيزنطي دائري غير منتج ولا يصل إلى قرار.
ومثل هذا الوضع يشجع متخذي القرار “الساسة والأحزاب” على عدم الاجتهاد في تحري سبل حُكم رشيد منسجم مع منهج تفكير موضوعي، فالتعويل دائمًا على صناعة سند شعبي يرتبط بولاء إستاتيكي، مما يستدعي الإفراط في استخدام خطاب الكراهية والتنابز بالألقاب لحصد أكبر قدر من استقطاب الجمهور.
يكفي استخدام اسم السياسي وتحويره لصناعة علامة كراهية، فينبني رد الفعل الشعبي المعارض أو المساند على حصاد التنابز بالألقاب دون أية حاجة لترجيح العقلانية و الموضوعية.
المسكوت عنه في الفضاء السياسي السوداني أن الساسة – بصفة غالبة – لا يَحظون بقدرات شخصية تؤهلهم للارتقاء إلى درجة “رجال دولة” قادرين على قيادة الدولة وليس مجرد تظاهرة أو حملات الكراهية المتبادلة.
ويساعد على تكريس ضعف قدرات الساسة أنها الوظيفة الوحيدة التي لا تحتاج مؤهلات أو مواصفات، فالقانون الذي يمنع قيادة سيارة صغيرة في الشارع بلا رخصة قيادة ليس فيه ما يمنع قيادة سياسي بلا قدرات لدولة كاملة.
علاج الحالة السودانية يبدأ بالاقرار بالمسكوت عنه، أن قدرات الساسة لا تؤهلهم لإدارة الدولة، وإلى حين فرض إصلاح سياسي بإصدار قوانين ترغم الساسة والأحزاب على الارتقاء بالمسلك المؤسسي، فمن الحكمة فصل أقدار المواطن عن السياسة، باستحداث تشريعات لا تجعل للمنصب السياسي – أيًا كان مقامه – سلطة التعالي فوق القرار الإداري