اعلانك هنا يعني الانتشار

أعلن معنا
الرأي

السُّودانيون ومخاطر تجزئة القضايا المصيرية ..!

الخرطوم: نادو نيوز

كتب :د. فيصل عوض حسن

 

 

 

تلاشى تماماً الجَدَل الواسع الذي دار في الفترة الماضية، حول استقبال مطار مروي للملاحة الجوية والطيران، بدلاً عن مطار الخُرْطُوم، وتوقَّفت الأنباء المُتواترة عن سيطرة المصريين على مطار مروي، تارةً بحجة تهريب الذهب والآثار، وتارةً بهدف تدمير سد النهضة الإثيوبي، وغيرها من التأويلات والأقاويل ودعوات الغضب والتتريس وما إلى ذلك.

 

بعيداً عن تأكيدات مدير المطارات الولائية بأن الوجود المصري في مروي بعلم ومُوافقة السُلطات السودانية، فمن الواضح أنَّ غالِبِيَّتنا (نحن السُّودانيُّون) نرفض حقيقة وقوعنا فعلياً تحت الاحتلال، سواء كان احتلالاً مصرياً أو غيره، ونتهرَّب من هذا الواقع بالجدل الوصفي (المُؤقَّت) وبالتأويلات الفضفاضة لبعض (الحقائق)، والتغافل عن حقائق أخرى أكثر خطورة! فالتغلغل المصري داخل الأراضي السودانية، لم يبدأ بمطار مروي ولا يقتصر عليه وحده، بل هو أنموذج واحد (للمُستعمرات) المصرية في السودان، والتي تشمل مُثلَّث حلايب الذي احتلَّه المصريُّون (بالكامل) منذ سنة 1995، وابتلاعهم لغالِبيَّة الأراضي النُّوبِيَّة في أقصى الشمال، حتَّى أصبحت أرقين ميناءً برياً لمصر، بعدما كانت حدودنا معها في قسطل! واستمرَّت تَوغُّلاتهم في أراضينا حتَّى بلغوا بعض شمال دارفور، بخلاف (مشروع الكنانة) البالغ مليون فَدَّان بالشِمالِيَّة، وسيطرتهم الكبيرة على مياهنا الإقليميَّة في البحر الأحمر، وابتلاعهم لثرواتنا الزراعِيَّة (النَّباتِيَّة والحيوانِيَّة) بأبخس الأثمان، دون مردودٍ إيجابيٍ معلومٍ و(مُوثَّق) حتَّى الآن!

 

هناك أيضاً الاحتلال الإثيوبي الذي بدأ بالفشقة، وامتدَّ ليشمل إقامة قُرىً كاملةً بمَحْمِيَّة الدِنْدِرْ، مع استمرار مليشياتهم في قتل وتشريد المُواطنين السُّودانيين، ونهب أراضيهم وثرواتهم الزراعيَّة والحيوانِيَّة. كما يُعاني السُّودان من الاحتلال بِغَلَبَةِ المال، عقب بيع/رَهْن المُتأسلمين لعددٍ من مُقدَّراتنا (أراضي/مشروعات/موانئ)، لكلٍ من الإمارات وتركيا والصين وروسيا والسعوديَّة وغيرهم. والاحتلال الأخطر والأسوأ، يتمثَّل في اختلال التركيبة السُكَّانِيَّة لأهل السُّودان (الأصيلين)، حيث جَلَبَ المُتأسلمون مجموعاتٍ أجنبيَّةٍ عِدَّة، ومنحوهم الجِنسيَّات والأوراق الثبوتِيَّة والأراضي والأموال، خاصة بدارفور وشرق السودان. وبعضُ أولئك (الوافدين/المُجنَّسين) تَقَلَّد مناصب حَسَّاسة بالدولة، وما يزالون، رغم أنَّ (المُجَنَّسين) لا يحترمون السودان ولا يحرصون على مصلحته وأمنه، وينعكس هذا الأمر في تآمرهم المُتزايد لبيع وإتاحة مُقدَّراتنا للعالم الخارجي دون تَرَدُّد، لأنَّهم لا يشعرون بالانتماء لهذه البلاد، وولاؤهم المُطلق لبلادهم الأصيلة!

 

لاشك أنَّ نهب وتفكيك/تمزيق السودان، كان وما يزال هدفاً استراتيجياً للمُتأسلمين، وأعلنوه صراحةً حينما طرحوا مُخطَّط “مُثلَّث حمدي” سنة 2005، الذي حَصَرَ السُّودان في محور (دُنْقُلا، سِنَّار والأُبَيِّض)، واستبعد جميع المناطق الواقعة خارج هذا المحور. ولكن من المُفارقات المُؤلمة جداً، أنَّ تراخينا في احتلال أراضينا بدأ بإعلان ما يُسمَّى (استقلال)، حينما تجاهل السُّودانِيُّون جُزءاً عزيزاً من البلاد، ثرياً بإنسانه السُّوداني (الأصيل) وبموارده الطبيعيَّة الخُرافِيَّة، اسمه (إقليم بني شنقول)! تلك الأرض الطيبة التي تجاهلها مُعلنو (الاستقلال) سنة 1956، ولم يُطالبوا بها باعتبارها أرض سودانِيَّة خالصة، آلت (إدارتها) لإثيوبيا وفقاً لاتفاقية 1902، مُقابل بعض الذهب المُسْتَخْرَج من الإقليم، تدفعه إثيوبيا لبريطانيا التي كانت تستعمر السودان آنذاك، أي أن الإقليم كان بحكم (المُؤجَّر) لإثيوبيا، وكان حَرِياً بهم المُطالبة بالإقليم واستلام السودان كاملاً مُكَمَّلاً، لكنهم تركوه للإثيوبيين ينهبون خيراته، ويقمعون أهله المُنحدرين من جميع قوميات السودان الأصيلة، وها نحن نكتوي بتبعات ذلك الخطأ التاريخي، مُمثَّلاً في سد النَّهضة المُقام ببني شنقول، والذي يُضاف للتهديدات السيادِيَّة/الوُجودية التي تواجه حاضر ومُستقبل السودان! وهذا إجمالاً يعني أنَّ التلاعُب بسيادة السُّودان (مُتجذِّر) وقديم، ودونكم ما قام به عبود ورفاقه من خيانة تاريخية بالتخلي عن الأراضي النُوبِيَّة وتهجير أهلها وطمس آثارها، بخلاف الخيانات المُوثَّقة لقادة ما يُسمَّى (الأمة والاتحادي)، الذين ساهموا في توطين مئات الآلاف من الأجانب غرباً وشرقاً، تلبيةً لأطماعهم السُلطَوِيَّة وتوريثها لأنجالهم، ولم يجرؤ أياً حتَّى الآن على مُجرَّد إدانة المصريين أو الإثيوبيين، لاحتلالهم أراضينا خوفاً على مصالحهم الشخصية! ثُمَّ جاء عهد الكيزان الظلامي، الذي اتَّخذَ من نهب وتمزيق ما تَبَقَّى من السُّودان هدفاً استراتيجياً، حتَّى بلغنا القاع الذي نحياه الآن!

 

الحقائق التي ذكرتها أعلاه ليست مُجرَّد أقاويل، وإنَّما واقع مُوثَّق لا يُمكن إنكاره، واجتهدتُ كغيري في توثيقه منذ سنوات، على نحو مقالتي (ملامح الفصل الثاني لمسرحية مثلث حمدي) بتاريخ 6 مايو 2015، و(سيادة السودان ثمناً لأخطاء البشير) بتاريخ  19 سبتمبر 2015، و(حَلَايِبٌ وَأَخَوَاْتُهَاْ: غَدْرٌ وَتَوَهَاْنْ) بتاريخ 24 أبريل 2016، و(تَبَعِيَّةُ حَلَاْيِبْ لِأُسْوَاْنْ إِيْذَاْنٌ لِاْلْتِهَاْمِ وَاْدِيْ حَلْفَا) بتاريخ 12 مايو 2016، و(اِسْتِكْمَاْلُ تَنْفِيْذِ مُثَلَّث حَمْدِي اَلْإِسْلَاْمَوِي) بتاريخ 15 مايو 2016، و(أَمَا آَنَ اَلْأَوَاْنُ لِإِيْقَافِ اَلْصَلَفِ اَلْإِثْيُوْبِيّ) بتاريخ 13 أغسطس 2017، و(اَلْبَشِيْرُ وَتَعْمِيْقِ اَلْاِحْتِلَاْلِ اَلْمِصْرِيّ لِلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 19 أغسطس 2017، و(اَلْصِّيْنُ تَلْتَهِمُ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 5 سبتمبر 2017، و(تَسْلِيْمْ وَتَسَلُّمِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 17 أكتوبر 2017، و(مَتَىْ يَسْتَعِيْدْ اَلْسُّوْدَاْنْ بَنِيْ شُنْقُوُلْ) بتاريخ 17 ديسمبر 2017، و(اَلْاِلْتِقَاْءُ اَلْإِثْيُوْبْيُّ اَلْإِرِيْتْرِيْ: قِرَاْءَةٌ مُغَاْيِرَة) بتاريخ 23 يوليو 2018، و(اَلْسُّوْدَاْنُ مَسْرَحُ اَلْدُّمِي) بتاريخ 5 أغسطس 2018، و(اَلْمَشَاْهِدُ اَلْأَخِيْرَةُ لِمَخَطَّطِ تَمْزِيْقِ اَلْسُّوْدَاْنْ) بتاريخ 21 أبريل 2019، و(حِمِيْدْتِي: خَطَرٌ مَاْحِقٌ وَشَرٌّ مُسْتَطِيْر) بتاريخ 29 أبريل 2019، و(السُّودان بين مليشيات المُتأسلمين والجَنْجَوِيْد) بتاريخ 14 يونيو 2019، و(الغَفْلَةُ السُّودانيَّة) بتاريخ 26 مايو 2019، و(كيف ومتى يحتفي السُّودانيُّون بالاستقلال؟!) بتاريخ 1 يناير 2020، و(مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 10 فبراير 2020، و(أزمةُ الشَرْقِ حَلَقةٌ مِنْ حَلَقَاتِ تَذويبِ اَلسُّودان) بتاريخ 18 أغسطس 2020، و(حَتمِيَّة إفشال مُثلَّث حمدي لاستدامة السُّودان) بتاريخ 11 نوفمبر 2022 و(السودان: استقلالٌ مفقود وكرامةٌ مُهدَرة) بتاريخ 8 فبراير 2023 وغيرها الكثير.

 

المُحصِّلة أنَّ بلادنا غارقة في الاحتلال حتَّى النِّخاع، وليس فقط مطار مروي، لكننا نتعامل مع تلك الاحتلالات بالتجزئة/المقطوعِيَّة (المُؤقَّتة)، فأحياناً نتفاعل مع الاحتلال المصري لحلايب فقط، ونتجاهل الأراضي النُوِبِيَّة، أو نتجادل بشأن ابتلاعهم لثرواتنا الزراعِيَّة/الحيوانِيَّة، بمعزلٍ عن عبثهم بمياهنا الإقليمية في البحر الأحمر. وأحياناً نُركِّز على الاحتلال الإثيوبي، ونتجاهل أراضينا ومُقدَّراتنا المُبَاعَة/المرهونة، وسيطرة الأجانب المُتزايدة على مفاصل الدولة، رغم أنَّها تهديدات (وُجُودِيَّة) تُواجهنا جميعاً بلا استثناء، لكننا نتعامل معها باستخفاف، وبشكلٍ مُؤقَّت/جزئي لا يتعدَّى الجدل (الوصفي) دون أفعال محسوسة وحاسمة! ولنتأمَّل حالة مطار مروي المُشار إليها أعلاه، حيث ارتفع الجدل وتواترت الأقاويل بكثافة، ثُمَّ اختفت تماماً وكأنَّ شيئاً لم يكن، بينما يُواصل المُحتلُّون المصريُّون وغيرهم سيطرتهم، بمُساعدة عُملائهم الدَّاخليون وعلى رأسهم البرهان والمُرتزق حميدتي ورفقائهم، وأزلامهم من القحتيين و(مقاطيع) اتفاقِيَّات جوبا، الذين يشغلونا بتفاهاتهم التي لا تنتهي، ونحن ما نزال في غفلة ولا نتَّعظ حتَّى الآن!

 

إنَّ (تجزئة) القضايا المصيريَّة والمخاطر الاستراتيجيَّة، والاكتفاء بالجدل الوصفي (المُؤقَّت) دون عمل/فعل حاسم ومؤثر، لم ولن يُحرِّر بلادنا من الاحتلال، أو يحفظ أرواحنا وأعراضنا المُهْدَرة. والعبارات الساذجة و(المُنهزمة) على نحو (أشقَّاء، أخت بلادي… إلخ)، لم ولن تُرقِّق قلوب الطَّامعين علينا. إنَّنا بحاجة لتغيير (نهجنا) بالكامل، بدءاً بإدراك أحقاد وأطماع (الأشقاء) التي تتهددنا، وحتمية مُواجهتهم بحزمٍ وسرعة، واستبدال منهجية (التجزئة/التوهان) بالعمل المُتكامل والمُتوازُن ومُعالجة جميع المهددات في وقتٍ واحد. ويُمكن تحقيق ذلك، بالإسراع في تشكيل كيانٍ (شعبيٍ/عريضٍ)، تحت قيادة (وطنية سودانية خالصة معلومة)، بدلاً عن التشرذُم والتقوقع في لجان محليَّة متفرِّقة. وبعبارةٍ أوضح، نحن بحاجة لتجاهل العواطف/المُجاملات، والعمل بإشراف (تنظيم) قوي ومُتكامل، ووفق (استراتيجيَّات/خطط) واضحة ومدروسة، تتضمَّن ما سنفعله وكيف ومتى، والانتقال من بديلٍ (استراتيجي) إلى آخر بسلاسة ودون انقطاع، مع الابتعاد تماماً عمَّا يُسمَّى قحت وحركات، أو التعويل على العالم الخارجي، لأنَّهم إمَّا طامعين أو خونة، ونحن المعنيون بإنقاذ أنفسنا، وعلينا ألا نلوم هؤلاء أو نعشم في أولئك، فما حَكَّ جِلْدَك مثل ظُفرك.

 

ليتنا نترك الأمزجة الشخصيَّة والمُمارسات الفرديَّة، ونخرج من عباءاتنا الطائفيَّة/الكيانيَّة (الضَيِّقة)، وندخل في جُلْبَاْب الوطن الكبير، ونلتزم بثقافة/مبدأ المنافع العامَّة، ونستفيد من تنوُّع السُّودان والمزايا التي يُتيحها هذا التنوُّع، ونُسَخِّر معارفنا الأكاديميَّة وخبراتنا العمليَّة لخِدْمة أنفسنا وبلدنا (كلٌ في مجاله)، والفرصة ما تزال مُواتية للنجاة (إذا) أردنا ذلك.. وللحديث بقيَّة.

 

 

 

خروج:

 

عقب انتهائي من هذه المقالة قرأتُ خبراً عن تنفيذ القوات البحرية السودانية والمصرية لتدريب مشترك فى مجال الأمن البحرى ببورتسودان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله..!

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى