اعلانك هنا يعني الانتشار

أعلن معنا
الأخبارتقارير

الظلام الحرب العطش الأوبئة : امتحان البقاء في الخرطوم

 

تقرير: محمد عبدالكريم

يعيش ملايين السودانيين تحت وطأة الظلام الحالك، والحر اللاهب، والأمراض الفتّاكة، بعد أن أصبحت الكهرباء ترفاً مفقوداً في خضم حربٍ دخلت عامها الثالث. لم تكن الكهرباء مستقرة حتى في أوقات الهدوء النسبي، إذ اعتاد المواطنون على الانقطاعات المتكررة، غير أن الحال اليوم بلغ ذروته بعد الضربات الجوية الأخيرة التي طالت محطات رئيسية في العاصمة الخرطوم، بينها محطة بري الحرارية، ومحطة قري، ومولدات جبل أولياء، ما فاقم معاناة السكان، خصوصاً أولئك الذين لم يُعاد إليهم التيار منذ بداية الحرب، كما في شرق النيل.

وسط هذا المشهد القاتم، تحاول الأسر التأقلم بوسائل بدائية، من النوم في الخارج وعلى الأسطح لتخفيف الحرارة، إلى شراء ألواح الثلج لتبريد مياه الشرب، مروراً بالاحتماء بألواح الطاقة الشمسية لمن استطاع إليها سبيلاً.

كرري… حياة في العتمة والعطش

تقول “سُهى”، صيدلانية تقيم في حي الواحة بمدينة أم درمان، إن معاناتها اليومية مع انقطاع الكهرباء والمياه تظل أقل وطأة مقارنة بما يواجهه آخرون، إلا أنها لا تُخفي شعورها بالضيق وتبدا بالقول:”نحن في حي الواحة على الأقل لم تنقطع عنا المياه، لكنها تصل فقط عبر الخط الأرضي، ونضطر إلى رفعها يدوياً باستخدام الجرادل إلى الأدوار العليا. هذا مرهق جداً، لكنه أفضل من حال الكثيرين، فمعظم الناس يستخدمون السيارات لجلب الماء من أماكن بعيدة.”

تضيف سُهى أن انقطاع الكهرباء الكامل منذ أشهر غيّر نمط الحياة في الحي، وأجبر الكثيرين على التأقلم بطرق بديلة، وتقول:

“الحرارة أصبحت لا تُطاق، والبيوت كالأفران، لذلك نتناوب، أنا وأختي، النوم على الأرض في البلكونة الوحيدة بالشقة، رغم ما يحمله ذلك من مشقة. ولتبريد مياه الشرب، نضطر أحياناً إلى شراء نصف لوح ثلج بعشرة آلاف جنيه، فقط لنحظى بماء بارد يخفف قليلاً من قسوة الجو.” وتتابع:“مع كل هذا، ما يخيفني الآن هو المرض، فقد تفشّت الكوليرا في أم درمان. أصبحنا نغلي الماء قبل استخدامه للشرب أو الطبخ، وأخشى ألّا يكون ذلك كافياً، فمع شحّ الماء وصعوبة الحصول عليه، يزداد قلقي من انتقال العدوى لي أو لأحد أفراد أسرتي.” وتختم بالقول:

“لحسن الحظ، توجد في مكان عملي منظومة طاقة شمسية أستغلها لشحن هاتفي وهواتف أسرتي، وإلا لكنا معزولين تماماً. نعيش يوماً بيوم، ونعتمد على بعضنا البعض. لكن وجود الكهرباء ضروري لارتباطها بكل تفاصيل الحياة، من النوم و العمل، إلى أبسط مقومات الحياة.”

عبدالرحمن… الكهربائي الذي أطفأته الحرب ولا يختلف كثيراً حال سكان الحارة الثامنة بحي الثورة في أم درمان، عبدالرحمن، مهندس صيانة أجهزة كهربائية، انعدام التيار بات يهدد مصدر رزقه الوحيد وأمن أسرته ويقول عبدالرحمن:”أنا الابن الوحيد لأبي المسن، وأعول زوجتي وثلاثة أطفال صغار. قبل انقطاعات الكهرباء، كنت أعمل على إصلاح وتوصيل المكيفات والثلاجات في المنازل، وأكسب قوت يومي مقابل ذلك. الآن، ولأسابيع، لم يأتني زبون واحد.”

ويتابع:

“كنت أؤمّن دخلاً يكفي لسد احتياجات المنزل وتسديد فواتيره، لكن مع الغياب التام للكهرباء، تفككت مواعيدي، وأصبح دخلي صفراً.”

ويكشف عبدالرحمن أن أصدقاءه، وهم على دراية بظروفه، جمعوا له مبلغاً واشتروا لوحاً شمسياً صغيراً بقدرة 50 واط كهدية، يستخدمه الآن لشحن هواتف الناس في الحي مقابل مبلغ رمزي، ويقول:”هذا العمل لم يُنقذني تماماً، لكنه حال دون تفاقم الأزمة المعيشية لعائلتي. ويضيف:

تفشي الكوليرا في أم درمان، وصعوبة الحصول على الماء نحن في موقف صعب، أنا أحرص على أن يكون كل شيء نظيفاً ولكن أخشى أن لا يكون ذلك كافيًا لحماية والدي المسن والأطفال من المرض، فالماء غير متوفر بسبب الكهرباء.” ويختم عبدالرحمن حديثه:

“أن تُحرم كهرباء بسيطة تُشغّل مصباحاً أو جهازاً منزلياً هو أشد من فقدان الوظيفة نفسها؛ الظلام والحر يضاعفان القلق على أبنائي ووالدي، ويجعلاني أشعر أنني فقدت كرامتي قبل أن أخسر مصدر رزقي.”

ظلام كامل في الوادي الأخضر

أما سكان الوادي الأخضر بشرق النيل، فهم لم يعرفوا الكهرباء منذ بداية الحرب. تقول “أمل”، وهي من سكان الحي، إن مشهد الدمار الذي طال شبكة الكهرباء هناك يبعث على الأسى، وأضافت :”حتى أسلاك الكهرباء الموصلة بين الأعمدة قطعها جنود الدعم السريع لاستخدامها في جر العربات. والمحولات التي كانت معلقة في الأعمدة تم إنزالها، وسُرقت منها مكوناتها النحاسية، حتى الأعمدة نفسها تمّ حفرها من المنتصف، وأصبح الحديد المسلح فيها مكشوفاً، ما يجعلها آيلة للسقوط مع أبسط هبة ريح.”

وتشير إلى أن حيهم لم يعرف الكهرباء منذ اندلاع الحرب حيث قالت:”منذ اندلاع الحرب، لم يعد التيار الكهربائي نهائياً، والناس هنا تعايشوا مع العتمة كأمر واقع.” وتضيف:

“الذين يملكون الإمكانيات اشتروا ألواح طاقة وبطاريات ومنظمات، لكن المنظومة المتكاملة القادرة على تشغيل منزل بكامل احتياجاته قد تتجاوز تكلفتها خمسة ملايين جنيه، وهو مبلغ خيالي في ظل الظروف الراهنة. الناس هنا يعجزون حتى عن شراء برميل ماء بأربعة آلاف جنيه، فكيف يمكنهم التفكير في مثل هذه المنظومات؟”

وتختم بالقول:

“شخصياً، لا أستطيع تحمّل تكلفة منظومة شمسية بهذا الحجم، فأولوياتي المعيشية تتقدم. لكني اقتنيت لوحاً صغيراً بقدرة 18 واط، مع منظم شحن، كلفني حوالي أربعين ألف جنيه، وهو يكفيني فقط لشحن هاتفي المحمول. الحياة دون كهرباء صارت عبئاً متواصلاً لا يُطاق.”

طريق مسدود

في ظل التدهور المستمر للخدمات الأساسية، تأتي الضربات التي استهدفت محطات الكهرباء لتضع ملايين السودانيين في مواجهة مباشرة مع قسوة الحياة وانعدام الحد الأدنى من مقومات العيش. الكهرباء ليست مسألة رفاهية، بل شريان رئيسي للحياة يُحدد من يملك القدرة على الصمود، ومن ينهكه الظلام والحرمان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى