الأحداث الدامية التي يمر بها السودان، أبرزت قصص إنسانية مؤثرة، تروي معاناة الأبرياء.
وكان لأمدرمان وسكانها نصيبهم من تلك المآسي.
تلك المدينة التي يعشقها أهلها ومن يقطنها، ويفضلون الموت على ألا يقضوا ليلة واحدة خارجها، كيف وهم الآن يهيمون في بقاع الأرض، خارج دار الأمان التي عرفوها وألفوها، باحثين عن ملاذ آمن وسط خضم الحرب.
ولكن رغم النزوح واللجوء، فهي باقية داخل قلوبهم، وهم يمنون أنفسهم بالعودة العاجلة. وبالتأكيد، هنالك من بقوا رغم التهديد على منازلهم وخوفهم، إلا أنهم أثروا ذلك على أن يذهبوا من مدينتهم وبيوتهم إلى المجهول الذي لم يكونوا مستعدين له مادياً ولا معنوياً، ففضلوا أمدرمان، وإن كان البعض مستأجراً لا يملك فيها بيتاً.
أمبدة، وهي من أوائل المناطق التي تأثرت باندلاع الإشتباكات، وبعد أن إحتدم فيها القتال، كان إبراهيم بين أمرين أحلاهما مرّ، كما يصف.
فوالده ووالدته كبيران في السن، وأصحاب أمراض مزمنة، وهو ابنهما الوحيد، وزوجته الحامل، وبنته الصغيرة أمام ناظريه، تحت دوي المدافع وأصوات الدانات القريبة، حتى أن بعضها أصاب منزل جيرانه بعد أسبوع.
تحت ظل النيران والخوف والترقب، اختار الخروج إلى مسقط رأسه في جنوب الجزيرة.
رحلة في ذاكرة الألم:
لدى إبراهيم سيارة، ولكن القتال حال دون حصوله على البترول. بعد عناء بحث ومساعدة أصدقاء، حصل على ما يخرجه من أمدرمان. وكان الأصعب من هذا عليه هو ووالديه ترك منزل عمروه ودفعوا ثمن هذا كل حياة والديه وسنين عددا من حياته، على أنه مسكنهم وملاذهم الآمن ومستقبل أولاده. في الطريق إلى قريته، قابلتْه ارتكازات قوات الدعم السريع التي لم يشفع له عندهم صغر بنته أو كبر والديه.
ويقول إنه لاقى ما لاقى من ذل وإهانة وشتائم وألفاظ مسيئة كيلت له على مسمع والديه وزوجته وطفلته الصغيرة.
بعد عناء وشق أنفس، وصل حيث أهله وعشيرته، وشعر الآن بالراحة والطمأنينة على أهله ونفسه. ويذكر إبراهيم أنها تسعة أشهر جميلة، حيث رزق فيها بمولود أسماه أحمد وهم بين أهلهم وأحبابهم، والمطمئن له أن قريتهم أقصى جنوب الجزيرة، وهي بعيدة من الاشتباك، حتى بعد أن دخلت قوات الدعم السريع إلى الجزيرة.
إلى أن حدث الطارئ المفاجئ الذي لم يحسب إبراهيم حسابه، حيث وصلت القوات العسكرية إلى قريته، وبدأت رحلة جديدة من المعاناة والنزوح، ولكن هذه المرة كانت مشاكل شح البترول أكبر.
كانت وجهته سنار عبر المناقل، ثم طريق جبل مويه وهو طريق ترابي غير معبد، في رحلة ذاق منها والده المريض وأحمد الصغير الأمرين. وصل إلى سنار التي لم يطل فيها مكوثه، حيث وصلت تخومها الاشتباكات.
ولكن للخروج فقط من كبري وددوبا الذي يخرجك من سنار، جلسوا على الطريق أكثر من اثني عشر ساعة، فكل الناس كانت تريد الخروج إلى المناطق الآمنة بعيداً عن الاشتباك. وبعد هذه الساعات الطوال، قاد إبراهيم أكثر من مئة وثلاثين كيلومتراً إلى الدندر التي كان الخروج منها أصعب بعد أن لحقت بهم الحرب إلى هناك. فقضى أيضاً يومين في الطريق إلى القضارف، وكان يعاني من وضع عائلته الذي يرثي له، خصوصاً أن تلك الرحلات استنزفته مادياً ومعنوياً، فهو الآن يبحث فقط عن مكان يحويه واسرته، خصوصاً أن الرحلة صعبة ومرهقة عليه هو وزوجته، فما بالك برجل وامرأة كبيرين في السن وصغير لم يبلغ بعد عامه الأول.
لم يكن إبراهيم يتحمل تكلفة إيجار منزل، فهو بدون وظيفة لأكثر من عام، فبحث عن الأقارب والأصدقاء، وأقل المنازل كان يحوي أربعة أو خمسة أسر. فلم يجد إلا غرفة في كريمة شمال السوان، فكانت هي الوجهة من القضارف إلى كسلا ثم إلى هيا ثم إلى مروي، فكريمة حيث الاستقرار في الغرفة التي جاد بها أحد الأصدقاء.
ويقول إبراهيم إنه محظوظ بامتلاكه سيارة، وحظه أكبر إذ لم يأخذها منه أحد تحت تهديد السلاح، فهو رأى في طريقه من جابوا الأرض، وقد يكونوا ساروا نفس مسيره وأكثر على أرجلهم فقط.
مدينة محطمة
أما ناديه التي كانت أقل حظاً من إبراهيم، فقد منعها وضع أسرتها المادي والحصار الذي أطبق فيما بعد على سكان الفتيحاب وبعض أجزاء من أمبدة من الخروج.
ذكرت أنها هي وزوجها وبناتها الثلاث وابنها قد خرجوا من منزلهم بعد القصف العشوائي بالمدافع والدانات التي دمرت الكثير من منازل جيرانهم، خصوصاً أن بيتهم مجرد جالوص.
إلى منزل أحد الجيران عسى أن يحميهم الأسمنت والبناء المسلح من الدانات.
وذكرت أنهم كانوا يحتمون في ذلك المنزل ثلاث أسر، وكذلك فعل معظم الناس، فكانوا يلجئون إلى أكثر البيوت أماناً من المدافع والدانات، وظلوا تحت هذا الوضع حتى فتح الطريق ووصول قوات الجيش في كرري إلى المهندسين في 16 فبراير، وتمدده نحو أمبدة.
فهم يقطنون بداية أمبدة قريب من كوبري ودالبشير، ولكن لا تزال المنطقة غير آمنة.
فهم الآن يستطيعون فقط الخروج إلى بعض المناطق الآمنة نسبياً، الثورات أو منطقة كرري عموماً، لأن لديها أخت تسكن هناك، وإن كانت تسقط يومياً الدانات هناك، ولكنها بلا شك أفضل في نظرهم، خصوصاً أنهم عانوا ويلات الحرب في أمبدة، ورأوا منازلهم ومنازل جيرانهم معظمها تهدمت وسرق أثاثها، ورأوا مناظر تقشعر لها الأبدان، حيث كل الميادين ومعظم الشوارع صارت مقابر، ومناظر الجثث الملقاة على طول الطرقات بعد كل اشتباك ومعركة. وصلوا إلى كرري سيراً على الأقدام، ولكن ما ترتب على عشرة أشهر أو أكثر قضوها هناك كان أكبر من إرهاق وتعب هذه الرحلة.
فأقل من فقد الوزن فقد نصف وزنه، غير الأزمات النفسية التي سببها الخوف.
فهم كانوا أيضاً يعانون من شح المواد الغذائية، ويشربون من ماء ملوث، حيث الماء والكهرباء هي رفاهية لم يفكروا بها حتى.
أصيب زوجها وواحدة من بناتها بأمراض الكلى، وأصيبوا كلهم بإلتهابات البول.
وصلوا واستقروا بمنزل شقيقتها وأسرتها، وبدأوا رحلة العلاج لزوجها الذي يعاني من مشاكل الكلى والالتهابات والتيفويد، وبنتها التي تعاني من مشاكل الكلى والالتهابات، بغض النظر عن المشاكل النفسية التي يعاني منها أبناؤها الآخرون.
وهم الأمان
لم يكن سكان هذه المنطقة الذين بقوا فيها ولم ينزحوا إلى إحدى الدول أو إحدى ولايات السودان الآمنة يشعرون بما تشعر ناديه.
فهم أيضاً يعانون الأمرين.
فلو نجا بعضهم ونجت منازلهم من القصف العشوائي حتى الآن، فهو لم ينج من فقد حبيب أو جار أو صديق. تراهم صحيحين، ولكن لم ينجُ أحد هناك من الاكتئاب والقلق والإضرابات النفسية التي أصابتهم بعد صدمة 15 أبريل، كما وصفتهم طبيبة المختبرات أسراء وهي من سكان كرري.
ذكرت أنها استيقظت ذلك الصباح على صوت مدوي، لتكون تلك بداية لمعاناة لم تنته حتى الآن.
تقول أسراء إن أصوات المدافع والطيران كان قوي جداً لوجود معسكرين كبيرين بالقرب منهم.
وهذا ما زاد من الخطر على سكان هذه المنطقة، وجعلهم عرضة للقصف العشوائي الذي تُنسف منه البيوت يومياً، ولا يسلم منه المواطنون أيضاً. ولكن أكثر ما ترك عندها آثار نفسية عميقة هو سفر ونزوح الأقارب والجيران من المنطقة، حتى أنه خلت الشوارع من وسيلة مواصلات إلا إلى الولايات.
ومع تقدم الأيام واستمرار الحرب، كان هنالك ندرة في المواد الغذائية وندرة في الماء والكهرباء، مما جعل حياتهم اليومية غاية في الصعوبة، فضلاً عن الخوف المستمر.
ولكن، باستمرار قدوم نازحين من مناطق أكثر تأثراً بالحرب، شعروا ببعض الطمأنينة، وإن كان يؤرقهم صوت المدافع وأخبار من قتل بالقصف العشوائي أو طلقة طائشة من معارفهم.
والادهى والأمر أن معظم الناس، من نزح ومن بقي حتى الآن، بدون وظائف، والأسر التي لا يوجد عائل لها خارج السودان تعتمد بشكل كلي على المنظمات التي تدعم مرة أو مرتين في العام، والتكايا التي تعاني أيضاً من المشكلات وقلة التمويل. فظهر سوء التغذية عند معظم الناس. وأيضاً، نسبة للتلوث الكبير الذي حصل نتيجة المعارك، تفشت الأمراض، وساعد أيضاً عدم وجود رعاية صحية جيده على ذلك.
فالناس هناك أحوج ما يكونون للدعم المادي والصحي والنفسي، خصوصاً الأطفال.
فهم الآن خارج المدارس لعامين، لا يسمعون سوى أصوات المدافع وأخبار الحرب والموت، ولا يرون إلا الطيران والمظاهر العسكرية.
أمدرمان، وإن كانت مثلها مثل العديد من مدن السودان، تدفع ثمن هذه الحرب التي فرضت علينا ودمرت البنية التحتية والمنازل، إلا أنها لها خصوصيتها عند كل السودانيين كرمز للسلام والتعايش.
ويتجسد هذا، بأبسط ما يكون، في العرضة شمال وجنوب الهلال والمريخ.
فهي اليوم تتحول لشاهد على وحشية هذه الحرب، وتظل قصص سكانها شاهدة على معاناة لا توصف. هذه النماذج المؤلمة لم تكن الصفحة الأكثر إيلاماً من صفحات حرب السودان، هي فقط تذكر أن خلف الإحصائيات والأرقام نساء ورجال وأطفال يعانون، وأن الحرب لم تعد صراعاً مسلحاً فقط، بل هي الآن كارثة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.